الإصلاح الأمني في الأردن: من أين يبدأ؟
أخشى أن تعبير الإصلاح الأمني قد أصبح مصطلحاً مؤهلاً للدخول في القواميس السياسية الحديثة التي تهدر السياق العام لمفهوم الديمقراطية وتقطعها إلى أجندات صغيرة كحقوق المرأة والطفل والبيئة، والتي تتغافل عن أن الديمقراطية عنوان عريض يقوم على المساواة وسيادة القانون، وأنها لا تتحقق بتمكين جزء من المجتمع بمعزل عن غيره، وأن الخلل في أي جزء إنما هو خلل في الأساس، فتمكين المرأة في مجتمع ما يفترض أن الرجال فيه متمتعون بكامل حقوق المواطنة، ولن تجدي الطفل الحماية القانونية في مجتمع أفراده غير متساوين أمام القانون، والبيئة لن ينقذها نظام قانوني يمتطيه أصحاب الصناعات الملوثة وحلفاؤهم من السياسيين الفاسدين.
إن العيب الرئيسي لهذا المفهوم للإصلاح هو أنه يجنب العلة النقد، ويخلق طريقاً موازياً لحل تداعياتها بمعزل عنها، لا بل أنه في بعض الأحيان يعطي وبشكل غير مباشر نوعاً من الغطاء، حتى لا نقول الشرعية، للجهة التي تخرق القانون، ويعطيها واجهة شكلية زائفة بهدف خلق وعي وهمي لدى الناس بالديمقراطية وحكم القانون. وأفضل مثال على ذلك مؤسسات مكافحة الفساد وحقوق الإنسان التي تؤسسها حكومات العالم الثالث في سياق خططها الإصلاحية، فهذه المؤسسات يتم تأسيسها وتخصص لها الأموال والكوادر وتتاح لها مساحات من الحرية في المراقبة والانتقاد وإصدار التقارير وملاحقة مخالفات فساد أجهزة الدولة وانتهاكاتها لحقوق الإنسان، ويسمح لها أحياناً بالاتصال مباشرة ومراجعة الأجهزة التي ترتكب تلك الانتهاكات، وكل ذلك دون النظر إلى أن التكييف الحقيقي لكل تلك المخالفات هو أنها جرائم يعاقب عليها القانون، وأن السلطة المنوط بها ملاحقتها هي القضاء. فأين هي تلك السلطة؟ وماذا يعني تعطيلها وتجيير صلاحياتها لبعض تلك المؤسسات مثل مؤسسات مكافحة الفساد التي تتمتع في بعض الأحيان بصلاحيات قضائية؟ 1 ولماذا لا يتم توفير كل ما يحشد من دعم ومال وطاقات لتلك المؤسسات لتمكين القضاء حتى يتمكن من ممارسة رقابته الدستورية وملاحقة الجرائم التي ترتكب من قبل مسئولي الدولة وغيرهم في ما يسمى بمخالفات حقوق الإنسان والفساد.2
إن دولة القانون تقوم على ركائز ثلاث: قضاء مستقل يبسط رقابته على الكافة، وبرلمان منتخب على أساس نظام انتخابي عادل وعملية انتخاب نظيفة، وحكومة تخضع في عملها للمحاسبة بحيث تتلازم سلطتها مع مسؤوليتها أمام البرلمان، وتعمل تلك الركائز ضمن نظام من الكوابح والموازنات لا يطغى فيه طرف على الأخر. وعندما يختل هذا النظام، وهو لا يختل في العادة إلاَ لصالح الحكومة، يبدأ الفساد بالاستشراء في كل مكان في الدولة، وخصوصاً في القطاع الأمني، والفساد هنا بمعناه الواسع الذي يتجاوز الجرائم المعرّفة ويتمثل بسوء استعمال السلطة والإخلال بتوازن السلطات وإضعاف قدرتها على العمل، وهو الأمر الذي ينتهي عادة بامتطاء جهاز الأمن للسلطة.3
فالحديث عن إصلاح القطاع الأمني يقتضي النظر إلى العلة، والعلة في فساد الجهاز الأمني، هي تغوّل السلطة التنفيذية على السلطات الأخرى وضعف أو غياب الرقابة عليها، وبما أن الرقابة هي المهمة الرئيسية التي يمارسها القضاء ومجلس النواب على السلطة التنفيذية، فإن ذلك يعني أن أزمة القطاع الأمني في أي دولة إنما هي أزمة ديمقراطية وضعف في حكم القانون. لذلك، ولدى الحديث عن الإصلاح الأمني، فمن الضرورة إدراك أن الإصلاح لا يتم إلا في إطار نظام ديمقراطي، فإذا لم تكن هذه الفرضية من ثوابت المعادلة، فلا فائدة في الحديث عن الإصلاح، فالدولة السلطوية التي لا يحكمها القانون هي التي تحتاج إلى الإصلاح، وليس نظامها الأمني.
ومن هنا، فإنني أعتقد أن هناك ثلاثة محاور تتخلل بحث الإصلاح الأمني: الأول هو إذا ما كانت السلطة التنفيذية قابلة للمحاسبة والمساءلة، والثاني إذا ما كان القضاء مستقلاً وقادراً على بسط رقابته الدستورية، والثالث هو معرفة إذا ما كانت السلطة التشريعية قادرة على ممارسة رقابتها على السلطة التنفيذية. والأردن لا يشكل استثناءً على ذلك، فمحاور الأزمة والإصلاح فيه هي ذاتها؛ فاختلال العلاقة فيما بين سلطات الدولة واستئثار السلطة التنفيذية بالحكم وتغوّلها على القضاء والبرلمان هو أساس معظم الاختلالات والأزمات، ومنها القطاع الأمني ولا شك. وفي جميع الأحوال، فإن هذه المحاور، وما يتفرع عنها من مواضيع، التي يتخللها بحث إصلاح القطاع الأمني يلزمها الكثير من البحث المفصل والموضوعي والجريء في ذات الوقت، وتناولها هنا كعناوين عريضة هنا ما هو إلا فاتحة ومدخل لذلك.
وفي الأردن الذي لا يعج بالأجهزة الأمنية والاستخبارية السرية والعلنية كما في بعض الدول الأخرى4 ، فإني أرى بأن مظاهر الأزمة في القطاع الأمني تكاد تنحصر في جهاز المخابرات العامة، فهو يمثل إحدى البؤر التي تتمثل فيها أزمة الديمقراطية وحكم القانون في الأردن، بحيث تتقاطع في عمله الاختلالات الجوهرية في عمل وعلاقات سلطات الدولة مع بعضها البعض، ويظهر من تحليل ذلك الكثير مما يستدعي الإصلاح الجوهري في الهيكل الدستوري والقانوني والإداري الأردني. وهذا بطبيعة الحال لا يعني بأن جهازيْ الأمن الآخريْن، مديرية الأمن العام والمديرية العامة لقوات الدرك، لا يشوب عملهما الكثير من الاختلالات والمخالفات، ولكنني لا أرى فيها تجسيداً حقيقياً لأزمة الديمقراطية وحكم القانون في الأردن، بل هي لا تعدو عن كونها نتاج جانبي للحالة الذهنية العامة التي تسود في ظل اختلال الديمقراطية وحكم القانون.
لقد مر ما يقارب الخمسة وأربعين عاماً على تأسيس جهاز المخابرات العامة 5، وأصبح له اليوم نفوذ استثنائي على الحكومة والقضاء والبرلمان، وسطوة على الأفراد. فالمخابرات بالإضافة إلى العمل الاستخباري الذي فوضها به قانونها، تمارس أعمالاً أمنية داخلية تدعي فيها لنفسها صفة الضابطة العدلية بكل ما يرتبط بتلك الصفة من صلاحيات إجرائية وتحقيقية بما في ذلك جمع الأدلة والملاحقة والتوقيف والتنصت على المكالمات الهاتفية، وهي تتعاون في ذلك مع نيابة محكمة أمن الدولة. كما أن المخابرات تدير مركزاً للتوقيف خاصاً بها داخل أسوارها. وكذلك فإن المخابرات تتدخل في سير الانتخابات النيابية ابتداءً من دعم بعض المرشحين ومحاربة البعض الآخر، ومروراً بالعبث بإرادة الناخبين قبل وأثناء عمليات الاقتراع، وانتهاءً بالتأثير في أداء النواب وتوجيههم في القضايا التي تسعى فيها المخابرات لمواقف برلمانية معينة خدمة لتوجه معين. وعلى صعيد الإعلام، فإن المخابرات تتدخل في الصحافة الورقية والالكترونية وتستزلم من تستطيع استزلامه من الصحفيين. وهناك مهام عديدة أوكلتها المخابرات لنفسها كأمر واقع ودون سند من القانون، مثل إصدار "شهادات حسن السلوك" للمواطنين لتقديمها لغايات معاملات تتعلق بالدراسة والعمل، وهذه عملياً عبارة عن شهادة حسن سلوك سياسي.6 هذا بالإضافة إلى الموافقات التي تصدرها المخابرات على التعيينات في وظائف حكومية وغير حكومية، وعلى كثير من المعاملات كتأشيرات الدخول ورخص المطبوعات وتملّك العقارات لغير الأردنيين وتأسيس بعض الشركات ورخص السلاح.
وفي مرحلة من المراحل، قامت الحكومة بتفويض جزء من الأعمال المفترض أن تكون أعمالاً قضائية إلى المخابرات، ففي سنة 1996 أنشأت بقرار من رئيس الوزراء في دائرة المخابرات العامة وحدة جديدة هي مديرية مكافحة الفساد "لمتابعة قضايا الفساد المالي والإداري المستتر والتي لا تستطيع أجهزة الرقابة الحكومية كشفها وضبطها"، وتم انتداب مدعٍ عام من وزارة العدل وضباط من مديرية الأمن العام للعمل في الوحدة الجديدة كونهم من أعضاء الضابطة العدلية بهدف إكساب أعمال هذه المديرية الصفة القانونية اللازمة في ملاحقة جرائم الفساد.
وبسبب كل تلك الصلاحيات الاستثنائية الممتدة في كل مكان، وبفعل كثير من التجاوزات في مجالات أخرى، فقد أصبح جهاز المخابرات العامة واقعاً منتصباً في وسط الحياة السياسية والقانونية الأردنية ومرجعاً في كافة شؤون الدولة الأردنية، وهذا بالتأكيد قد أدى إلى تداعيات مضرة بالحالة الديمقراطية والسياسية أهمها تعطيل الحراك الحقيقي في الحياة السياسية، وهو ما أدى ويؤدي بالضرورة إلى آثار اجتماعية وأخلاقية سلبية على الأردنيين، وفقدان للبوصلة الطبيعية للتطور في جميع مناحي الحياة للدولة الأردنية، سواء من الناحية السياسية أو الاقتصادية أو العلمية أو الاجتماعية.
من أين يبدأ الإصلاح
ليس هناك ترياق جاهز للإصلاح، إنما الإصلاح عبارة عن حالة تتكون في لحظة تاريخية متميزة تسود فيها إرادة سياسية جماعية للإصلاح ومستوىً من الأخلاقيات التي ترقى إلى أهمية تلك اللحظة. وكما أن أسباب الخلل هي حصيلة تراكم فساد ومصالح اختلطت باجتهادات تكونت واستقرت عبر مراحل طويلة من الزمن، فقد يكون للإصلاح استحقاقاته ووقته. وبطبيعة الحال، فإن أسباب الخلل قد انعكست من خلال الدستور والقوانين والأنظمة.
ينص الدستور الأردني على أن نظام الحكم نيابي ملكي وراثي، وأن الأمة هي مصدر السلطات في الدولة الأردنية. والملك هو رأس الدولة وهو مصون من كل تبعة ومسؤولية، 7 وتناط به السلطة التنفيذية التي يتولاها بواسطة وزرائه. 8 والحكومة هي المسؤولة عن إدارة كافة شؤون الدولة الداخلية والخارجية وتتبعها كافة أجهزة السلطة التنفيذية، ويكون رئيسها والوزراء فيها مسئولين عن السياسة العامة للدولة وعن أعمال وزاراتهم أمام مجلس النواب المنتخب انتخاباً عاماً مباشراً. أما مجلس الأعيان فيتم اختيار أعضائه بالتعيين، وهم يكونون عادة من الطبقة المحافظة من رؤساء الوزارات والوزراء وكبار موظفي الدولة والضباط المتقاعدين وشيوخ العشائر ورجال الأعمال. أما القضاء الذي تصدر أحكامه باسم الملك، فينص الدستور على أن القضاة مستقلين، وأن لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون. وكان هذا الدستور قد تعرض إلى مجموعة من التعديلات منذ الخمسينيات من القرن الماضي، والتي جاء معظمها بهدف إعطاء صلاحيات أكبر للملك والحكومة على حساب مجلس الأمة بشقيه: مجلس الأعيان ومجلس النواب.
وعوداً على محاور بحث الإصلاح الأمني: قابلية السلطة التنفيذية للمحاسبة والمساءلة، واستقلال القضاء وقدرته على بسط رقابته، وفاعلية البرلمان في بسط رقابته على الحكومة، فإن تمرير وفحص أعمال المخابرات من خلال تلك المحاور، قد يبرز مواطن الخلل وأسبابه، ويعمق الفهم لموضوع إصلاحها في ذات الوقت.
قابلية السلطة التنفيذية للمحاسبة والمساءلة
إن النظر إلى أحكام وروح الدستور وقراءة نصوصه كوحدة واحدة دالة على بعضها البعض وضمن السياق التاريخي الذي وضع فيه الدستور وبدئ في تطبيقه منذ عام 1952، لا يدع مجالاً للشك بأن نظام الحكم النيابي الملكي الوراثي الذي نص عليه الدستور هو نظام ملكي دستوري، أي يملك فيه الملك ولا يحكم. وكون الملك مصون من كل تبعة ومسؤولية، وأن أوامره الشفوية والخطية لا تعفي الوزراء من مسؤولياتهم، فإن الحكومة هي التي تغطي مسؤولية الملك أمام مجلس النواب، وتتحمل مسؤولية كافة أعمال السلطة التنفيذية بما في ذلك الحساب والعقاب، فالملك الدستوري لا يخطئ (The King can do no wrong)، وبالتالي لا تجوز محاسبته. 9
إلا أن الواقع الأردني يقول بعكس ذلك، فالملك هو الذي يعين الحكومات ويقيلها ويمارس سلطات حكم واسعة، والحكومات تنفذ رغبات الملك، وبخلاف ذلك فإنه يقيلها، وذلك بالرغم من أنها حسب نص الدستور مسؤولة عن ما تنفذ من رغبات وعن السياسة العامة للدولة أمام مجلس النواب. وهذا الشكل للمسؤولية يطرح إشكالية مهمة في فهم وتطبيق الدستور تلقي بظلالها على كافة تفاصيل الحكم في الأردن، وهي إشكالية تلازم السلطة والمسؤولية. فالحكومة المسؤولة بكل أشكال المسؤولية الدستورية، بما في ذلك حجب الثقة عنها واستجواب وسؤال رئيسها والوزراء ومحاكمتهم، قد تواجه في بعض الأحيان المسؤولية عن أعمال ليست من صنعها أو قرارها؟ وهذا فيه مخالفة لأبسط بديهيات الحكم الديمقراطي. وبالإضافة إلى ذلك، فلا شك بأن هذا وضع يشل الحراك السياسي في أي دولة، إذ أن هذا الشكل من علاقة سلطات الدولة ببعضها هو عبارة عن مصادرة على المطلوب من نظام حكم نيابي تراقب فيه السلطات بعضها لضمان الحكم الديمقراطي وسيادة القانون.
ونفس الإشكالية تبرز أيضاً في علاقة المخابرات بالحكومة، فقانون المخابرات يقضي بأن المخابرات هي من الأجهزة الحكومية المرتبطة برئيس الوزراء مباشرة وتأتمر بأوامره. 10 لكن وهنا أيضاً، فإن الواقع يقول بعكس ذلك، فالمخابرات تتبع الملك بالدرجة الأولى، ومن المعروف والواضح أن المخابرات لها تأثير في تشكيل وعمل الحكومات، وهي قد تراقب رئيس الوزراء والوزراء أيضاً، 11 وهذا يعني أن الحكومة مسؤولة أمام مجلس النواب عن أعمال جهة تتبعها من الناحية النظرية فقط، فمسؤولية الحكومة عن أعمال المخابرات هي جزء من مسؤوليتها عن كافة أعمال السلطة التنفيذية وأجهزتها.
وهذا يعني أن الحكومة ليست شريكاً رئيسياً حقيقياً في الحكم وصنع القرار، إذ أنها تخضع بشكل من الأشكال للواقع الذي تخلقه هذه العلاقات المعقدة فيما بينها وبين الملك والمؤسسة الأمنية.
وبالنظر إلى هذا الحال من التعقيدات الدستورية والعملية في عمل الحكومة وعلاقتها بالملك ومجلس النواب، فيظهر أن المخابرات، مع كل ما لها من نشاطات ومسؤوليات، غير خاضعة للمحاسبة أو المساءلة كجزء من السلطة التنفيذية.
في استقلال القضاء وقدرته على بسط رقابته
ينص الدستور على أن السلطة القضائية هي سلطة من سلطات الحكم الثلاث في الأردن. ومع أن القضاء من المفترض أن يراقب السلطة التنفيذية ويحاسبها، وأن يمارس رقابة على السلطة التشريعية من خلال رقابته للانتخابات العامة لضمان قيام انتخابات حرة ونزيهة حتى تنتج مجلس نواب قادر على القيام بواجباته الدستورية، وأن يكون مرجعاً لفض النزاعات والطعون التي تنشأ عن الانتخابات، إلا أن تلك الرقابة مشلولة في كثير من المفاصل الحساسة التي يجب أن تكون خاضعة لرقابة مستقلة. فمن خلال مسح سريع للدستور وبعض القوانين، تجد العديد من النصوص المحكمة التي وضعت لضمان حماية السلطة التنفيذية وتجنيبها الخضوع للمحاسبة الجادة.
فقد أوجد الدستور محكمة خاصة لمحاكمة الوزراء عن الجرائم التي يرتكبونها أثناء تأديتهم وظائفهم الوزارية هي المجلس العالي. 12 وبالرغم من أن الدستور قد نص على أن يضم المجلس العالي في عضويته خمسة من قضاة محكمة التمييز بترتيب الأقدمية، إلا أن رئاسة المجلس العالي معقودة لرئيس مجلس الأعيان ويضم في عضويته ثلاثة منهم. 13 وقد أناط الدستور بمجلس النواب سلطة النيابة العامة 14 أمام المجلس العالي في القضايا التي يحاكم فيها الوزراء. 15 وبهذا الترتيب، فإن سلطة القضاء تكون مرفوعة تماماً عن ملاحقة الجرائم التي يرتكبها الوزراء أو رئيسهم خلال تأديتهم لوظائفهم.
كما أعطى الدستور لمجلس النواب حق الفصل في صحة نيابة أعضائه، بحيث يتم تقديم أي طعن يتعلق بصحة نيابة أي نائب منتخب إلى مجلس النواب، ولا يتم إبطال صحة نيابة أي نائب إلا بقرار يصدر بأكثرية ثلثي أعضاء مجلس النواب، 16 أي أن المجلس المعترض على صحة انتخابه هو ذاته الذي يتولى مهمة فض النزاعات المتعلقة في تلك الانتخابات بدلاً من القضاء.
وتوجب القوانين الأردنية المتعلقة بالأجهزة العسكرية والأمنية أن يحاكم أعضاؤها على الجرائم التي يرتكبونها أثناء أدائهم وظائفهم الرسمية أمام محاكم عسكرية خاصة بتلك الأجهزة. ومن تلك القوانين قانون المخابرات الذي يوجب محاكمة أعضاء المخابرات أمام محكمة عسكرية خاصة بالمخابرات تسمى المجلس العسكري، ويجب أن يترأس هذه المحكمة ضابط أعلى رتبة من الضابط الذي تجري محاكمته، وتكون الأحكام الصادرة عن هذه المحكمة غير قابلة للطعن أمام أي محكمة أخرى.
وبأخذ هذه المعلومات واستعمالها في إجراء تمرين وهمي على ملاحقة قضائية مفترضة لعملية تزوير لانتخابات عامة لمجلس النواب في الأردن والتقدم بطعن في صحة نتائجها، فإن هذه الانتخابات يكون قد أشرف على إجرائها وزير الداخلية بصفته الوزير المسؤول عن الإشراف على الانتخابات وفقاً لقانون الانتخاب لمجلس النواب، وتكون المخابرات بالتعاون مع وزير الداخلية قد تدخلت في مجريات أي من مراحل الانتخابات، وأنه قد تمخض عن تلك الانتخابات مجلس نواب بنسبة من الأعضاء الذين تبوؤوا مقاعدهم النيابية نتيجة لما يسميه قانون الانتخاب بـ "جرائم الانتخاب". وبتطبيق التمرين الوهمي، تكون البداية بجمع الأدلة والتحقيق مع وزير الداخلية لغايات إحالته إلى المحاكمة أمام المجلس العالي، فنكون في هذا الحال مضطرين بحكم الدستور إلى إسناد هذه المهمة إلى مجلس النواب الذي اصطنعه وزير الداخلية، أي أن المدعي العام الذي يجمع الأدلة ويحقق مع المشتكى عليه ويحيله إلى المحكمة، هو صنيعة المشتكى عليه. أما مدير المخابرات، وبصفته المسؤول قانوناً عن إدارة المخابرات وحسن أدائها لأعمالها، فإنه لا يحاكم إلا بعد أن تقوم النيابة العامة العسكرية في المخابرات، التي يأتمر ضباطها بأمره، بالتحقيق معه وإحالته إلى المحكمة العسكرية للمخابرات التي يجب أن يترأسها ضابط مخابرات أعلى منه رتبة، وهذا في الحقيقة تسلسل للأحداث من المستحيل أن يحقق نتائج على أرض الواقع، لأن القانون أوجد هذه الحلقة المفرغة لتحصين المخابرات من المحاسبة وشل الرقابة القضائية الدستورية على أعمالها.
أما بالنسبة إلى مجلس النواب الوليد، فإن الطعن أمامه بصحة نيابة أعضائه هو ضرب من المزاح، لأن الخصم هو ذاته الحكم في هذه الحالة، وكان من الأجدى بالدستور أن يوكل هذه المهمة إلى القضاء في تجسيد واضح لأهم مبادئ ومظاهر القضاء الصالح في العالم.
فاعلية البرلمان في بسط رقابته على الحكومة
يعطي الدستور الأردني لمجلس النواب الحق بمراقبة أعمال الحكومة الممثلة أمامه برئيسها ووزرائها بصفتهم مسئولين عن إدارة كافة شؤون الدولة الداخلية والخارجية وكافة أعمال السلطة التنفيذية، ولمجلس النواب التصويت على الثقة بالحكومة لدى تشكيلها، وله طرح الثقة بالحكومة أو بأحد الوزراء في أي وقت من الأوقات، وله سؤال واستجواب رئيس الوزراء أو أي من الوزراء، كما أن له الحق في اتهامهم وإحالتهم إلى المحاكمة أمام المجلس العالي إذا ثبت أي جرم على أي منهم.
وينص النظام الداخلي لمجلس النواب على تشكيل لجان برلمانية لكافة القطاعات والمواضيع الرئيسية، ولكنه لا ينص على تشكيل لجنة للأمن والاستخبارات. 17 كما يجيز النظام الداخلي للجان مجلس النواب استدعاء الوزير المختص أو من ترى لزوم سماعه من موظفي الدولة أو غيرهم في المواضيع التي تبحثها. 18 ومن المعروف أن برلمانات الدول الديمقراطية تشكل لجاناً خاصة بالأمن والاستخبارات وذلك تسهيلاً لتعاون البرلمانات مع أجهزة الأمن ومراقبة أعمالها مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصية وأهمية السرية في أعمال تلك الأجهزة. وعادة ما تكون هذه اللجان مشكلة من عدد من النواب المخضرمين وأصحاب الخبرة والاعتبار الذي يتحملون مسؤولية المعلومات الحساسة التي قد يطلعون عليها خلال العمل مع أجهزة الأمن، والتي يستحيل مناقشتها بالعلن مراعاة للسرية والمصالح الأمنية للدولة.
ولكن يبدو أنه من الصعب تشكيل لجنة كهذه في مجلس النواب واستدعاء أي من كبار موظفي الأمن أمامها وذلك لسبب بسيط، إذ كيف يمكن لنواب في البرلمان أن يراقبوا ويحاسبوا جهة هي التي أتت بهم وأجلستهم على مقاعدهم النيابية بطريقة غير مشروعة؟ وفي الحقيقة أنني لا أجد ما أضيفه على ذلك في هذا المحور.
خلاصة
إن الخلل في القطاع الأمني ما هو إلا نتاج طبيعي لمعادلة الوضع السائد المختل فيها توازن السلطات بشكل فاضح. والإصلاح يبدأ إذا ما توافرت إرادة سياسية جماعية للإصلاح لدى كافة أطراف المعادلة أو لدى الأطراف القادرين على ترجيح كفة الإصلاح. وكذلك فإن على الجهات المستفيدة من الوضع الراهن أن تدرك أن دولة القانون هي التي تحقق مفهوم الأمن الشامل لا العكس، وأن الشرعية السياسية لا تقوم على حفظ الأمن، بل إن الأمن هو نتيجة طبيعية لها. وعلى الجميع أن يدرك أن المؤسسات الأمنية يجب أن تخضع كغيرها إلى حكم القانون، وهو ما لا يتيسر إلا بتمكين سلطتي القضاء والتشريع من بسط رقابتهما الدستورية الواجبة. وبخلاف ذلك، فإن وضع القطاع الأمني سوف يبقى على ما هو في خدمة معادلة الأمر الواقع ودفاعاً عن استئثار السلطة التنفيذية بالسلطة واحتكارها لصنع القرار.
وبذلك، فإن الإصلاح الأمني في الأردن لا يكون إلا بمسيرة جادة ومستمرة من أجل تحقيق دولة القانون والمؤسسات تتوج بإصلاحات دستورية وتشريعية ديمقراطية جريئة، فالإصلاح الحقيقي لا يدرك إلا بالإصلاح.
الكاتب سفيان التل